فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [78].
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة} أي: لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي: نعمة الله في ذلك، بصرفها لما خلقت له. وهو أن يدرك.
وفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ** تدلُّ على أنَّه الوَاحِدُ

والقلة في الآية هذه ونظائرها، بمعنى النفي، في أسلوب التنزيل الكريم. لأن الخطاب للمشركين.

.تفسير الآيات (79- 81):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} [79- 81].
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: خلقكم وبثكم بالتناسل فيها: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون يوم القيامة، بعد تفرقكم إلى موقف الحساب: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي} أي: خلقه، أي: يجعلهم أحياء، بعد أن كانوا نطفاً أمواتاً، ينفخ الروح فيها، بعد الأطوار التي تأتي عليها: {وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: بالطول والقصر. فهو متوليه ولا يقدر على تصريفهما غيره: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: إن من أنشأ ذلك ابتداء من غير أصل، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم. ثم بين تعالى أنهم لم يعتبروا بآياته، ولا تدبروا ما احتج عليهم من الحجج الدالة على قدرته على فعل كل ما يشاء، بقوله: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} أي: من الأمم المكذبة رسلها.

.تفسير الآيات (82- 83):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [82- 83].
{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي: أحياء، كهيئتنا قبل الممات: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي: ما سطروه في كتبهم، مما لا حقيقة له:

.تفسير الآيات (84- 85):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [84- 85].
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: فتعلمون أن من ابتدأ ذلك، قدر على إعادته.

.تفسير الآيات (86- 87):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [86- 87].
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: عقابه على شرككم به، وتكذيبكم خبره وخبر رسوله.

.تفسير الآيات (88- 89):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [88- 89].
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ} أي: يغيث من أراد، ممن قصد بسوء: {وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء، فيدفع عنه عذابه وعقابه: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي: تخدعون عن توحيده وطاعته، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة فالسحر مستعار للخديعة. وتكرير: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لاستهانتهم، وتجهيلهم، لكمال ظهور الأمر.
قال في الإكليل: قال مكيّ: في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله.

.تفسير الآيات (90- 94):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [90- 94].
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في دعواهم أن له ولداً ومعه شريكاً: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} لأنه يجب أن يتخالفا بالذات، وإلا لما تُصُوِّرَ العدد- والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه، ويستبد به، ويظهر بينهم التحارب والتغالب، فيفسد نظام الكون، كما تقدم بيانه في آية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [22]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي: من العذاب. أي: إن كان لابد من أن تريني. لأن ما والنون للتأكيد: {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: نجني من عذابهم. وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب، وكونه بحيث يجب أي: يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به. وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم به، استهزاء. وتكريرُ النداء، لإظهار زيادة الابتهال.

.تفسير الآيات (95- 100):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [95- 100].
{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} أي: من العذاب: {لَقَادِرُونَ} أي: وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالخلة التي هي أحسن الخلال. وهو العفو والصفح: {السَّيِّئَةَ} يعنى أذى المشركين: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: فسيرون جزاءه: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي: وساوسهم المغْرية على الباطل والشرور والفساد، والصدّ عن الحق: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي: يحضروني في حال من الأحوال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أي: حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب، وعاين وحشة هيئات السيئات، تمنى الرجوع، وأظهر الندامة، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} يعني قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} الخ: {هُوَ قَائِلُهَا} أي: لا يجاب إليها ولا تسمع منه، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة. والآية نظيرها قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: حائل يحول بينهم وبين الرجعة، يلبثون فيه إلى يوم القيامة.
لطيفة:
الواو في ارجعون قيل: لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى، وردّه ابن مالك بأنه لا يعرف أحداً يقول: رب ارحموني، ونحوه لما فيه من إيهام التعدد. مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه. كما في ضمير المتكلم. وقيل إنه لتكرير قوله: ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا إن أصله قف قف على التأكيد، وبه فسر قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]، قال الشهاب: فيكون من باب استعارة لفظ مكان آخر لنكتة، بقطع النظر عن معناه، وهو كثير في الضمائر. كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى، ومن لفظ إلى آخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنه غيِّر الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر. فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل، قائماً مقامه في التأكيد، من غير تجوز فيه ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه. انتهى.

.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [101].
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي: لشدة الهول من هجوم ما شغل البال حتى زال به التعاطف والتآلف، إذ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37]، ونفيُ نفع النسب، إذا دهم مثل ذلك معروف. كما قال:
لاَ نَسَبَ اليومَ وَلاَ خُلَّةٌ ** اتَّسَعَ الخرقُ عَلَى الراقِعِ

{وَلا يَتَسَاءَلُونَ} أي: لا يسأل بعضهم بعضاً، لعظم الفزع وشدة ما بهم من الأهوال، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال، فتنقطع العلائق والوُصَل التي كانت بينهم، وجلّي أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ، كما دل عليه قوله: {فَإِذَا} أي: فوقت القيام من القبور وهول المطلع يشتغل كل بنفسه. وأما ما بعده فقد يقع التساؤل، كما قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] و[الطور: 25]، لأن يوم القيامة يوم ممتد. ففيه مشاهد ومواقف. فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه.
تنبيه:
روى هنا بعض المفسرين أخباراً في نفع النسب النبويّ. وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين، أو في مسانيد من التزم الصحة.

.تفسير الآيات (102- 104):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [102- 104].
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: رجحت حسناته: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال، ولله در القائل:
إذا كان رأسَ المال عمرُكَ، فاحترس ** عليه مِنَ الإِنفاق في غَيْرِ واجِبِ

{فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أي: تحرقها. وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء. فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي: مشوهون، قبيحو المنظر. ويقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً:

.تفسير الآيات (105- 106):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [105- 106].
{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا} أي: ملكتنا: {شِقْوَتُنَا} أي: التي اقترفناها بسوء اختيارنا: {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} أي: عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب، قال أبو السعود: وهذا، كما ترى، اعتراف منهم، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية، فمع أنه باطل في نفسه، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم- يردّه قوله تعالى:

.تفسير الآيات (107- 110):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [107- 110].
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي: أخرجنا من النار، وارجعنا إلى الدنيا. فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فإنا متجاوزون الحدّ في الظلم. ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا، ولما وعدوا الإيمان والطاعة: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا} أي: ذلوا فيها كخسء الكلاب: {وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} أي: بتشاغلكم بهم على تلك الصفة: {ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}.
ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم، وأنهم انتفعوا بما آذوهم، بقوله:

.تفسير الآيات (111- 114):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [111- 114].
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قَالَ} أي: الله أو الملَك المأمور بسؤالهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: شيئاً ما. أو لو كنتم من أهل العلم، والجواب محذوف، ثقة بدلالة ما سبق عليه. أي: لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها، كما علمتم اليوم. ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها.
قال الرازيّ: الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا. ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء، ولا إعادة. فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون، سألهم: كم لبثتم في الأرض؟ تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً، فهو يسير، بالإضافة إلى ما أنكروه. فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا. من حيث أيقنوا خلافه. فليس الغرض مجرد السؤال، بل ما ذكر.
قال الزمخشري: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا، بالإضافة إلى خلودهم، ولما هم فيه من عذابها. لأن الممتحَن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه ما أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور. وأيام السرور قصار، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن، وصدّقهم الله في تقالِّهم لسني لبثهم في الدنيا، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ: {فَسَلِ الْعَادِّينَ} والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين، إلا أنا نستقله ونحسبه يوماًَ أو بعض يوم. لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدها، فسل من فيه أن يعدّ، ويقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. انتهى.